الطبيعة يكتنفها
السر ..
إنها ليست كما
تبدو على السطح بالنظر الساذج الموضوعي .. سماء الليل المُرصعّة بالنجوم ليست كما تبدو
مجرد ملاءة سوداء عليها نقط فِضيّة .
إن فيها عُمقاً
و استسراراً .
و البحر ليس مجرد
حوض مليء بالماء المالح .
إن فيه هو الآخر
.. عمقاً .. و رهبة .
إن رؤيته و هو
يجيش و يتلاطَم .. تهز النفس .
الطبيعة أعمق من
كونها خريطة .. و مسطحات ممدودة .. و شكلاً جغرافياً .
إن فيها عمقاً
كالعمق الذي نراه في عين وحش كاسِر مذبوح يتألم ..
إن الوصف الموضوعي
لماء البحر بأنه ماء مُذاب فيه سلفات صوديوم و سلفات ماغنيسيوم و كلوربوتاسيوم .. إلخ
.. إلخ .. وصفٌ مُضحِك .
هناك نوع عميق
جداً من التخاطب .. بين الإنسان و الإنسان .. و بين الإنسان و الطبيعة .. يتم بدون
العقل .. يتم عبر العقل .. يتم بدون نظر موضوعي .. بالإلهام .. بالرؤية الوجدانية
.. و الإتصال المباشر بدون وساطة الكلام .
حاسة سادسة أو
سابعة تكشف للإنسان روح الأشياء في لحظات .. و في ومضات خاطفة .. فيحس كأنما هذه الطبيعة
الموضوعية الظاهرة للحواس ليست هي كل الحقيقة .
و إنما هناك شيء
وراءها .. و أنها مجرد جسد .. مثل الجسد الممدد على مائدة العمليات .. جسد وراءه شيء
.
العالَم ليس ما
هو عليه .
النظرة الموضوعية
ليست كافية .
العِلم لا يفي
بأغراضه في البحث عن الحقيقة ، إنه مجرد خطوة .
الإنسان ليس مجرد
بيت خربان يكفي لإصلاحه أن نقوم بعملية مكياج خارجية .. فندهن الحجرات بالزيت و نُغطي
الأرض بالباركيه .
الإنسان أكبر بكثير
مما يبدو من خارجه .
و ترميمه من الخارج
بإطعامه .. و تأمين الضرورات المادية لحياته .. و صيانته بالكساء و الدواء .. خطوة
مهمة أولى في طريق طويل و لكننا لابد أن نتجاوز هذه الخطوة .
و نتجاوز أفعالنا
.. و نصعد على عقولنا .. و ننظر عبرها .. عبر ما يبدو من حدود موضوعية أمامنا .
إن الحقيقة وراء
كل هذا ..
إن كل ما هو واضح
و محدد و مفهوم في هذه الدنيا لا يدل عليها .. و إنما يدل على غرورنا فقط .
إن أكثر الأشياء
دلالة على حقيقة هذه الدنيا .. هو جانبها المحجوب الخفي .. الحاضر في وجداننا .. الغائب
عن حواسنا .
إن كل ما يبدو
للحواس له دلالة رمزية فقط .. إنه مجرد شفرة للحقيقة .
إن الكثرة التي
نراها حولنا كثرة رمزية أكثر منها كثرة حقيقية .
و حينما يأخذ العقل
بهذه الجزئيات التي يراها .. و يقف عندها .. يضل .. يتوه ..
فهناك ألف مليون
مليون مليون شيء مختلف في الدنيا .. و مع ذلك فالإختلاف ظاهري فقط .
و كل هذه الأشياء
المختلفة مترابطة في سياق عضوي كأنها أعضاء جسد واحد .
عشرات الآلاف من
أنواع النبات و الحيوان من حشرات لزواحف لطيور لزهور .. هي في الواقع عشرات الآلاف
من التباديل و التوافيق في مادة واحدة هي مادة البروتين .. في سباق زمني طويل من التطور
و النشوء و الإرتقاء .
الحركة و الكهرباء
و الحرارة و الضوء و الصوت و المغناطيسية .. جميعها شفرة لشيء واحد .. و دلالات رمزية
لحقيقة واحدة .. و مترادفات لغوية لمعنى واحد .. هو الطاقة .
ما يبدو لنا تكاثراً
هو في الحقيقة .. واحد .
شيء واحد يكشف
لنا عن وجوده بملايين الرموز .. و الرموز ..
التاريخ قصة رمزية
مسلسلة .
إن كل فصل تاريخي
بذاته عمل فاشل لا يوجد ما يبرر ما بُذِل فيه من دم و تضحيات .
التاريخ عملية
ثورية تفشل دائماً في بلوغ أهدافها .. كل عصر يحمل بذور فنائه فيه ..
و مع ذلك .. فأحداث
التاريخ الفاشلة لها دلالتها .. و دلالتها تقوم عبرها .. و عبر نهايتها .
معنى التاريخ في
المستقبل .. و ليس في الحاضر .. و لا الماضي ..
في ملكوت المستقبل
الذي يحلم به الإنسان ..
في الحرية التي
يحاول تحقيقها ..
في التاريخ القديم
حطم إبراهيم أصنام الجاهلية ..
و في التاريخ الحديث
حطمت الشيوعية صنم رأس المال .. و أقامت صنماً أعتَى إسمه .. الدولة .. الحكومة ..
و هي كأي حقبة تاريخية تحمل بذور فنائها فيها ..
تحمل بذرة الفوضوية
التي سوف تحطم صنم الدولة و صنم الحكومة .
و التاريخ ماضٍ
في تسلسله .
و الماضي لا يموت
.. إنه يُبعَث في الحاضر بألف صورة و صورة .
رموز ..
الواقع رموز
..
و بدون هذا الفهم
الرمزي للواقع يبدو الواقع كثيفاً غليظاً .
إن استشفاف الرموز
و المعاني من الواقع الغليظ الكثيف الجاف يخفف من جفافه و غلظته و يضيئه .
و بدون هذه الرؤية
الوجدانية للواقع يصبح الواقع كابوساً .
الرؤية الموضوعية
تجعل من الواقع كابوساً يجثم على الحواس .. و تجعل من مفردات الواقع حقائق نهائية
.
و الإدراك لا يتعامل
مع الواقع على هذا الأساس .
الإدراك يخطو عبر
الواقع و يتعالى عليه و يبحث عن معناه .. وراءه .. خلفه .
إنه يتعامل مع
رموز الواقع باعتبارها حقائق ناقصة .. يبحث لها عن معنى ..
هل جربــت البنج
الموضعـي ؟؟
هل جلسـت على كرسي
طبيب الأسنان و فتحت فمك و أسلمته نفسك ليحقنك بالبنج .. ثم بدأت تتفرج عليه و هو يقتلع
ضرسك من جذوره و يُخرجه بيده مغموساً بالدم .. و أنت تتفرج عليه في فضول و كأنه ضرس
رجل آخر .. و قد مات شعورك تماماً .. ؟؟
إن منظر الجراح
و هو يحاصر الجلد بالبنج ثم يقصه في هدوء كأنه يقص قطعة من الصوف الإنجليزي .. منظر
غريب ..
و الأغرب منه منظر
المريض و هو يتابع هذه العملية في دهشة .. و ينظر إلى جلده و المقص يقطع فيه بلا ألم
.. و كأنه جلد رجل آخر لا يعرفه .. و ينظر إلى جسمه و كأنه ليس جسمه .. و ينظر إلى
نفسه .. و كأنه شيء آخر غير ما هو عليه .
إنه يسأل نفسه
:
مَنْ أنا .. ؟
أنا لا يمكن أن
أكون ذلك الشيء الذي يقطعه الطبيب .. و يقصه و يرقعه .
أنا لست ذلك الجسم
الذي يبتره الجراح .. أنا لست الشعور الذي مات .
أنا لست موضوع
تلك العملية .
أنا مجرد متفرج
على ذلك الشيء الموضوع على المائدة .
و هو إلهام صحيح
تماماً .
إن الإنسان ليس
موضوعاً .. و لا يمكن إحالته إلى موضوع يُنظَر إليه من خارج كما يُنظَر إلى خريطة جغرافية
.
الإنسان هو الآخر
له أعماق " جوانية " لا تحيط بها النظرة الموضوعية .
الإنسان داخله
نهر من الأفكار و المشاعر .. متجدد .. متدفق بغير حدود ..
نهر من الأسرار
.. غير مكشوف لأحد سواه هو .. و لا شيء يبدو من هذا النهر من خارجه .. و لا يمكن أن
تحيط به نظرة موضوعية .
و أنت حينما تتخذ
من الإنسان موضوعاً .. يفقد في يدك الحياة .. و يفقد الوحدة .. و يتفكك و يتحول إلى
جسد .. إلى مادة تشريح .. إلى سيء .. أي شيء إلا الإنسان الذي تقصده .
واقع الإنسان المرئي
الظاهر .. ليس هو الإنسان .. إنه إفرازه .
و العلم يتحسس
الإنسان من خارجه فقط .. يفحص بوله و دمه و نخاعه و عرقه و لعابه .. يفحص إفرازاته
.
و هو لا يستطيع
أن يخطو عبر هذا المظهر .. إلا بالإستنتاج .
و لكن الفن يستطيع
أن يدخل الإنسان عبر العقل و المنطق ليخاطبه من داخله .. ليخاطب مكمن الأسرار فيه مباشرة
و كذلك الدين .. و الحب ..
لحظة الحب و الوجد
.. مثل لحظة الكشف و الإلهام .. تتكاشف فيها القلوب بلا وساطة .
السر يخاطب السر
.
و أنا أؤمن بالعِلم
.. و لكني لا أكتفي به .
و أؤمن بالحواس
الست .. و لكني لا أكتفي بها .
و أعتقد أن الطبيعة
يكتنفها السر .
و أن الحقيقة مغلقة
أمام كل محاولة لكشفها بالرادار و الترمومتر و المِجهر وحده .
و أن الطبيعة في
ضوء العلم وحده كابوس حقيقي ..
و الحياة بالمنطق
وحده سخافة ..
و الواقع بالنظرة
الموضوعية مسطح تماماً .
الطبيعة بدون شِعر
.. و بدون موسيقى .. غير طبيعية .
هل هي رومانتيكية
الرجل الشرقي ؟
نعم أعتقد أني
رجل شرقي تماماً .
و لا أعتذر من
أجل شرقيتي .
د. مصطفى محمود
. .
مقال .. الســر
من كتاب / تأملات
في دنيا الله