| 0 التعليقات ]



بقلم : عاطف يوسف محمود

يأتي لنا علم الفلك كل يوم بالأعاجيب تلو الأعاجيب. فقد تم لنا التحقق من تمدد الكون المطَرد وتباعد مجراته بعضها عن بعض، بفضل الأرصاد الفلكية الضافية التي قام بها الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هابل بالاستعانة بالمرقب العملاق المقام على قمة مونت ويلسون بالقرب من لوس أنجيلوس. وقد أفضت هذه النتائج إلى صياغة القانون المسمى باسم «هابل»، والذي ينص على زيادة سرعة تباعد المجرة بازدياد بعدها عنا زيادة طردية.

اعتمد هابل في هذه الاستنتاجات على ظاهرة معروفة في علم الفلك، وهي ظاهرة حيود الطيف الوافد من المجرة صوب الجانب الأحمر Redshift في حالة ابتعادها عنا. وتمشيا مع هذا القانون، كانت كل مجرات الكون - لدى لحظة ما من تاريخه - مكدسة كلها في نطاق بالغ الضيق، ومع وقوع انفجار هائل تبعثرت كلها في أرجاء الكون المترامية، متباعدة عن بعضها بمضي الزمن.

أثارت تلك النتائج جدلا واسعا، وكان من أشد معارضي نموذج الانفجار العظيم هذا وأكثرهم قسوة الفلكي البلغاري المولد فريتز تسفيكي، والذي اشتهر بين علماء الكونيات بغرابة أطواره وعناده المستفز. فقد فحص تسفيكي بيانات هابل، متسائلا عما إذا كانت المجرات تتحرك أصلا. وكان تفسيره البديل لانزياح ضوء المجرات صوب الطرف الأحمر من الطيف مبنيا على الاعتقاد الوجيه بأن أي شيء ينبعث من كوكب أو نجم ما، يفقد طاقة. فأنت مثلا إذا ألقيت حجرا عاليا في الهواء، فإنه يغادر سطح الأرض وله سرعة وطاقة محددتان، إلا أن قوة جاذبية الأرض الهائلة تقلص من طاقة الحجر الحركية، مقللة من سرعته تدريجيا حتى يتوقف ثم يهوى صوب الأرض. وبالمثل، فالضوء المنفلت من مجرة ما سوف تُستنزف طاقته بفعل قوة جاذبية المجرة. وليس بوسع الضوء أن يبطئ من سرعته، فسرعة الضوء ثابتة. ومن ثمّ فبدلا من ذلك يتمثل فقد الطاقة في زيادة الطول الموجي للضوء بحيث يميل لونه إلى الاحمرار. وبعبارة أخرى، هذا تفسير محتمل آخر للانزياح صوب الأحمر الذي أوضحته أرصاد هابل... تفسير لا يتضمن أي تمدد في الكون.

سُمّيت مقولة تسفيكي لتفسير الانزياح الأحمر باستنزاف طاقة الضوء تحت تأثير الجاذبية المجرية بنظرية «تعب أو كلل الضوء».

وكانت الصعوبة الرئيسية التي جابهت نظرية كلل الضوء هي عدم تعضيد قوانين الفيزياء المعروفة لها. فقد بينت الحسابات أن للجاذبية بعض التأثير على الضوء وعلى الإزاحة صوب الأحمر، ولكن على مستوى ضئيل، لا يكفي بكل تأكيد لتفسير أرصاد هابل. وقد رد تسفيكي بتفنيد أرقام الأرصاد، زاعما أنها قد تكون مبالغا فيها وأن المتزلفين من مساعدي هابل قد تلاعبوا في بيانات الأرصاد، أملا في إخفاء عوارها.

ورغم أن هذا السلوك الفظ من تسفيكي قد حول كثيرا من العلماء ضده بالتأكيد، بقيت قلة منهم تناصر معسكر نظرية «كلل الضوء»، فقد كان لتسفيكي سجل ناصع من البحوث، وأنجز خلال مسيرته المهنية أعمالا مرموقة حقا عن المستعرات العظمى والنجوم النيوترونية. بل إنه تنبأ في ثلاثينيات القرن العشرين بوجود المادة القاتمة... ذلك الكيان المبهم غير المنظور، التي كان الحديث عنها في البداية مثارا للتهكم والسخرية، في حين تم قبولها في الوقت الراهن قبولا حسنا كحقيقة مسلم بها.

ولقد كانت نظرية «كلل الضوء» هي الأخرى مدعاة للسخرية بالقدر نفسه. ولكن، من عساه يدري فلعلها تغدو حقيقة ذات يوم.


التعليقات : 0

إرسال تعليق


أخى الكريم تعليقاتك وارائك تهمنا جدا وتفتح للاخرين ابواب للمناقشات الهادفه والبناءة كما ان تعليقاتك تعكس مدى ثقافتك ورقيك فجعل دائما ارائك بناءة ومفيده وحاول ان تصل بها الى نتائج تفيد كل من يقراها