لا أحد منا يجهل دراكولا .. ذلك الرجل الشيطان الذى ينام ميتا فى تابوته طوال النهار حتى إذا جن الليل هام على وجهه باحثا عن ضحية آدمية يمتص دمها .. و ما يكاد يلمس بأنيابه عنق امرأة حتى تذوب بين ذراعيه لذة و عشقا و تسلم له نفسها يمتص دماءها حتى آخر قطرة .. و من ضحية إلى أخرى يظل يتنقل مرة على هيئة رجل و مرة على شكل خفاش أسود رهيب .. الليل حديقته و ملعبه ، و النهار عدوه ، و الشمس عفريته الذى لا يقوى على مواجهته ، ما كاد يطلع أول شعاع من أشعة الفجر حتى يعود مهرولا فى فزع إلى تابوته ليرقد فى موات و سكون طول النهار باردا برود الجثة لا ينبض فيه عرق .. لا تعود إليه حياة إلا مع أول خيط من خيوط الظلام و مع أول جرعة جديدة من دماء حية دافئة يمتصها .
هذه الشخصية الأسطورية البشعة التى طالما جلسنا نرتجف و نحن نتابع تحركاتها على شاشة السينما .. و الدماء تتثلج فى عروقنا و نحن نراه يثب فى خفة على ضحاياه و نعود فنلتقط أنفسنا و نحن قد ارتمى جثة باردة فى تابوته و كـأنه قد تحول إلى قطعة من رخام التابوت .
و نحن نطرق الشارع المبتل بخطواتنا المرتاعة و نتلفت عائدين من السينما إلى بيوتنا .. و عقولنا تتساءل : هل هذا الشبح البعيد الواقف تحت المصباح هو دراكولا .. هل سيثب على أعناقنا ليمتص دماءنا و نهرول فى طريقنا مذعورين .. و ما نكاد نلمح خفقات جناحى خفاش هائم فى الظلام حتى نقفز من الرعب .. إنه دراكولا .
هل يمكن أن يكون ذلك الخفاش دراكولا ؟!
هل دراكولا شخصية لها وجود .. أم أنها أسطورة ؟!
ذلك الميت الحى الذى يعيش آلاف السنين و يتجدد شبابه كل يوم بالدم الذى يمتصه فلا يشيخ و لا يفنى .. و يتكاثر بقدر عدد ضحاياه .. كل ضحية يمتص دمها تتحول بعد موتها هى الأخرى إلى دراكولا .
هذا الشعب الملعون من أبالسة الظلام الذى يدب بين القبور و ينشر الخراب حيثما حل .. هل يمكن أن يكون له وجود ..؟!
إنهم يقولون إن دراكولا أسطورة ..
و لكنى أقول إن دراكولا موجود .. و اسمه الفيروس ..
و ربما لم يخطر على بال مؤلف الأسطورة أن البطل الذى أبدعه من محض الخيال هو أكبر حقيقة تسكن هذه الأرض .. فلم يكن الفيروس معروفا حينما ظهرت هذه الأسطورة الشعبية القديمة ..
و لكن الفنان فى نظرى له وسائله الخفيه فى الإدراك ، فهو لا يكتشف الأشياء بالمجهر و التلسكوب و لا بالعقل و لا بالحساب و لا بالمنطق و إنما هو يرى الأشياء بعين داخلية .. بحاسة سادسة غير البصر .. هى البصيرة ..
و مؤلف دراكولا لم يكن يهذى .. و لم يكن ما تخيله محض هذيان ، فالعالم الحديث أثبت وجود دراكولا ..
ذلك الميت الحى .. الكائن اللغز الذى اسمه " الفيروس " .
كل الفارق بين الأسطورة و الحقيقة أن دراكولا الفيروس كائن صغير الحجم جدا .. أدق من جميع الميكروبات المعروفة .. و لا يمكن رؤيته بالعين المجردة .. و لا بالميكروسكوب .. و لا يمكن فصله من السوائل التى تحتوى عليه بالترشيح ، فهو ينفذ من أدق المرشحات إنه كالريح كالخلاء .
و لكنه يقتل و يصرع الألوف كل يوم ..
و الإحصاءات الأخيرة تقول لنا إن 60 % من الأمراض التى تصيبنا سببها فيروس ، و هو يصيب النبات كما يصيب الحيوان و الإنسان كما يتطفل أحيانا على الميكروب الصغير و يقتله ..
الزكام ، الأنفلونزا .. الجدرى ، الحصبة ، الكلب .. شلل الأطفال .. الصفراء .. الغدة النكفية .. التهاب المخ .. الالتهاب السحائى .. السرطان .. التراكوما .. كلها أمراض فيروسية و مثلها و أكثر منها فى الحيوان و النبات .
إنه وحش طليق .. أعداده بالملايين ، و هو يلهث خلف الحياة حيثما كانت ، و قد ظل مجهول الصورة و الشكل حتى اخترع المجهر الالكترونى منذ سنوات .
و باختراع هذا المهجر الذى تزيد قدرة تكبيره على مائتى ألف مرة أمكن رؤية هذا الوحش لأول مرة ..
و كانت نتيجة الرؤية مذهلة .
إن ما ظهر تحت المهجر لم يكن ميكروبا يتحرك كميكروب الدسنتاريا أو الكوليرا أو الملاريا و لم يكن حتى خلية لها صفات الخلايا الحية المعروفة .. و إنما كان عدة بلورات مثل بلورات ملح الطعام .. أو السكر البودرة .. مجرد مادة بروتينية ميتة .. وبتحليلها اتضح أنها البروتين النووى المعروف بالأحرف DNA حامض الديزوكسى ريبو نيو كليك .. و هى المادة الموجودة بنواة الخلية الحية و المختصة بنسخ النماذج و
الصفات الوراثية فى الخلية .. أنها أشبه بفورمة المطبعة التى يطبع منها العامل ملايين النسخ بالرونيوم أو الروتوجرافور حسب الماكينة التى تحت يده أو قالب الجبس الذى يصب فيه النحات ما يشاء من النسخ التى يريدها .. أو باترون الترزى الذى يفصل عليه آلاف الفساتين ..
و معروف الآن فى علم الوراثة أن كل خلية حية فى داخلها باترون خاص بها عليه الخلايا الجديدة التى تنقسم إليها ، و بهذا تحتفظ بطباعها و يحتفظ الكائن الحى بطابعه و شخصيته فى أثناء نموه و يورثه لآبنائه بعد موته .
هذا الباترون مصنوع من هذه المادة السحرية .
و هذه المادة بدورها مادة شديدة التعقيد مصنوعة من أكثر من عشرين حامض أمينيا متصلة ببعضها اتصال الحروف الأبجدية لتؤلف شفرة خاصة فى كل كائن حى ..
هذه الشفرة الكيميائية هى كرنيه تحقيق الشخصية الخاص بكل كائن .. إنها الباترون الذى يتميز به الكائن كما يتميز الإنسان ببصمة إصبعه .. و هى مادة لها صفة الأمر على المواد الأخرى ، فيمكنها أن تصبح ما تشاء من النسخ على هيئتها ..
و يشرح لنا علماء الوراثة الأمر أكثر فيقولون إن كل خلية تحتوى على أصل و صورة من هذا الباترون أصل من الداخل النواة مصنوع من ال DNA و صورة خارج النواة فى السائل الخلوى مصنوعة من مادة شبيهة هى RNA ( حامض ريبونيوكليك ) .
و تطبع النسخ الجديدة فى الخلية على الصورة على حين يحتفظ بالأصل داخل النواة فى أرشيف ..
و المذهل فى أمر الفيروس .. أنه يتكون دائما من هاتين المادتين ، أحيانا من الواحدة دون الآخرى .. و أحيانا منهما معا .
أحيانا فى صورة بلورات نقية .. و أحيانا فى تكوين هندسى بلورى له زوائد مثل إيريال التلفزيون .. و أحيانا تكون البلورات محاطة بكيس فى كل الحالات مجرد مادة كيميائية ميتة ليس لها جسم خلوى و لا تكوين حى .. إنها دراكولا الميت فى تابوته .
و لكن ما يكاد هذا الدراكولا الميت يلمس بزوائده و أنيابه خلية حية حتى يتحول إلى شيطان رهيب .
و أول ما يفعله دراكولا الرهيب فى لحظة ملامسته للخلية لأن يحقن مادة DNA و هى مادة جسمه فى داخل الخلية الحية ، و بهذا يدخل فى قلب الخلية تاركا زوائده و غلافه فى الخارج .
و ما يكاد يدخل الخلية حتى يلتبس الأمر عليها ..
إنها تواجه لأول مرة شفرة كيميائية جديدة ، شفرة آمرة .. معها تعليمات كيميائية مختلفة عن تعليمات كل يوم ..
و لمدى دقائق قليلة يخيل للخلية أن هذه الأوامر الكيميائية صادرة من نواتها .. فتبدأ فى تنفيذ هذه الأوامر الجديدة و تبدأ فى نسخ آلاف النسخ من الوافد الجديد و فى لحظات يتحول دراكولا إلى ألأف دراكولا .
لقد استعار جسم الخلية الحى و بدأ يسخره لخطته الجهنمية .
فعلى الخلية الآن أن تتكاثر و تتكاثر بسرعة لا وفقا لمخططها الخاص و شفرتها الطبيعية و لكن وفقا لمخططه هو و شفرته هو .. عليها أن تصنع منه مليون نسخة دراكولا .
لقد ذاق دراكولا طعم الدم .
و تحول الميت إلى حى ..
و الخلية المريضة التى تتكاثر بهذه الطريقة ما تلبث أن تنفجر و يخرج منها ألوف من وحدات الفيروس لتصاب بعدها خلية أخرى و أخرى .. و يبدأ الجسم يذوب و يهلك بينما يتحول الفيروس الغازى إلى جيش يطعن فى الظلام .
و أحيان يتسبب الاختلاف الطفيف فى الشفرة الكيميائية إلى نمو سرطانى .
فإذا تنبه الجسم فى الوقت المناسب إلى الخدعة ، فإنه يبدأ فى إفراز مواد مضادة .. و يبدأ فى إرسال تعليمات كيميائية جديدة يعيد بها التكاثر إلى خطته الطبيعية .
و أمام هذه اليقظة الفجائية لا يجد دراكولا مفرا من الهرب و العودة إلى تابوبته .. حيث يرى تحت المجهر الأكترونى فى الرشوحات و الأتربة .. مجرد بلورات كملح الطعام لا حياة فيها و لا حركة و لا تنفس و لا تكاثر و لا إحساس .
ما هو سر ذلك الميت الحى .. ؟!
و كيف تنبض الحياة فى مادة بلا حياة ..؟!
إن الأمور بدأت تختلط و لم يعد هناك ذلك الحاجز الصارم بين الحياة و اللا حياة .. و بدأنا نكتشف الحياة فى المادة الموات .. و الموت فى الحياة ..
لغز من أكبر الألغاز التى تواجه علماء البيولوجيا الآن .
لغز اسمه الفيروس ..
و أسميه أنا دراكولا .
د. مصطفى محمود ..
من كتاب / لغز الحياة